فصل: سورة الفاتحة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما أثبت بقوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏العالمين‏}‏ إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي‏:‏ و‏{‏الحمد‏}‏ المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة «أل» وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله‏.‏ انتهى‏.‏

ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ ترغبياً في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين في الأنعام عند ‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏ عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن‏.‏

ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏مالِك يوم الدين‏}‏ ترهيباً من سطوات مجده‏.‏ قال الحرالّي‏:‏ واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر، ثم قال‏:‏ و‏{‏يوم الدين‏}‏ في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء» وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا‏:‏ ‏{‏مس آباءنا الضراء والسراء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏ ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها» وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة» وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وسيجزيهم وصفهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 193‏]‏ و‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏، ‏[‏الواقعة‏:‏ 24‏]‏ وبه تم انتهاء الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى‏:‏ «مجدني عبدي» انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة «مَلِك» وقراءة «مالك» جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في ‏{‏ملِك الناس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة ‏{‏إياك‏}‏ أي يا من هذه الصفات صفاته‏!‏ ‏{‏نعبد‏}‏ إرشاداً لهم إلى ذلك؛ ومعنى ‏{‏نعبد‏}‏ كما قال الحرالي‏:‏ تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون ‏{‏وإياك نستعين‏}‏ إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة‏:‏ فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها‏:‏ «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك» ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله‏:‏ «لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك» وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذاً ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى‏:‏

«قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيداًَ، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شئ فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله‏:‏ ‏{‏نعبد‏}‏ بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع‏.‏ انتهى‏.‏ وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ تلقيناً لأهل لطفه وتنبيهاً على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي‏:‏ مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه، وجاء مكملاً بكلمة «أل» لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقاً لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله‏.‏ وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطاً منه

‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏ وأما من هدى وجهة ما فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة‏.‏ انتهى‏.‏ ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال‏:‏ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدواً كان أو ولياً، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية‏.‏ يعني لو قيل‏:‏ اتبع طريق أهل مصر مثلاً لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل‏:‏ اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيراً منهم، فعرف أنهم قسمان‏:‏ قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفاً بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفاً بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت «غير» لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل‏:‏ الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من «غير» النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة على بناء الكلام بادئ بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصوناً للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا ‏{‏ولا الضالين‏}‏ فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم‏.‏

قال الحرالي‏:‏ ‏{‏المغضوب عليهم‏}‏ الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى‏.‏ ‏{‏الضالين‏}‏ الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك‏.‏ «أمين» كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم‏.‏

قال الأصبهاني‏:‏ فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب‏.‏ انتهى‏.‏ والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكماً على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال‏:‏ ‏{‏وإياك نستعين‏}‏‏.‏

فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالاً جمة وأودية مدلهمة وبحاراً مغرقة وأنواراً هادية وأخرى محرقة، ورأى لكل أهلاً قد أسلكوا فجاء تارة حزناً وأخرى سهلاً، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له‏:‏ ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏‏.‏

ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال‏:‏ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏}‏‏.‏

وقد أشير في أم الكتاب‏.‏ كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي‏.‏ إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولاً وإلى إيجاد وإبقاء ثانياً في دار الفناء والبقاء، أما الإيجاد الأول فبقوله ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما الإبقاء الأول فبقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء، وأما الإيجاد الثاني فبقوله‏:‏ ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ وهو ظاهر، وأما الإبقاء الثاني فبقوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة‏.‏

ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها‏.‏ انتهى، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئياً فكلياً الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان‏.‏

قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه‏:‏ ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان‏.‏

اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادئ الحمد بمحمد، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعاً ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنَشّؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفاً فصحفاً وكتاباً فكتاباً، فالصحف لما يتبدل سريعاً، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً، والألواح لما يقيم وقتاً‏.‏

ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية، وفي الزبور تطريب الخلق وجداً وهم عن أنفسهم إلى ربهم، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة، ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين

‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏.‏ وإن إلى ربك المنتهى‏.‏

ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة، واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم، ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 7‏]‏ وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلاً من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم، يعلم ما شهد فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلاً، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالاً، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل‏.‏

آخر آية أنزلت ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏ قال صلى الله عليه وسلم في مضمون قوله تعالى ‏{‏إن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 17‏]‏ «اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها» لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها، آية ‏{‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحاً واحداً إلى أم القرآن ‏{‏وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏ فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه، وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وتنزيل في تلاوته، ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ كذلك أي كذلك أنزلناه، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون

‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3‏]‏ أي إلى سماء الدنيا ‏{‏ونزلناه تنزيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏ وعلى لسانه في أمد أيام النبوة، وقال في تفسيره‏:‏ القرآن باطن وظاهره محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضى الله عنها‏:‏ كان خلقه القرآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم صورة باطن سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره ‏{‏نزل به الروح الأمين * على قلبك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 194‏]‏‏.‏

وقال في تفسير الفاتحة‏:‏ وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله‏:‏ ‏{‏اهدنا‏}‏ شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏ انتهى‏.‏

ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «قال الله عز وجل‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد» الحمد لله رب العالمين «قال الله تعالى‏:‏ حمدني عبدي، وإذا قال» الرحمن الرحيم «قال الله‏:‏ أثنى عليّ عبدي، وإذا قال‏:‏» مالك يوم الدين «قال الله‏:‏ مجدني عبدي‏.‏ وقال مرة‏:‏ فوض إليّ عبدي، وإذا قال‏:‏» إياك نعبد وإياك نستعين «قال‏:‏ هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال‏:‏» اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين «قال‏:‏» هذا لعبدي ولعبدي ما سأل «والله أعلم‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما كان معنى ‏{‏الم‏}‏ هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين‏.‏ ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي في شيء من معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب‏.‏

قال الحرالي‏:‏ «ذا» اسم مدلوله المشار إليه، واللام مدلوله معها بُعدمّا ‏{‏الكتاب‏}‏ من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام ‏{‏لا‏}‏ لنفي ما هو ممتنع مطلقاً أو في وقت «الريب» التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منها‏.‏ انتهى‏.‏ وأصله قلق النفس واضطرابه، ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال‏:‏ ‏{‏هدى‏}‏ وخص المنتفعين لأن الألد لا دواء له والمتعنت لا يرده شيء فقال‏:‏ ‏{‏للمتقين‏}‏ أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعاً للريب أصلاً‏.‏

قال الحرالي‏:‏ جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب‏.‏ انتهى‏.‏

ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفاً لهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره، وعبر بالمصدر للمبالغة‏.‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها‏.‏ ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدماً للجار ناهياً عن الإسراف ومنبهاً بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وآمراً بالورع وزاجراً عما فيه شبهة ‏[‏لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه‏]‏ ‏{‏ومما رزقناهم‏}‏ أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم ‏{‏ينفقون‏}‏ أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام‏.‏

قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله من قبل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏ قاطع في ذلك‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ ‏{‏يؤمنون‏}‏، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه، و«الغيب» ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة ‏{‏يؤمنون‏}‏ و‏{‏يقيمون‏}‏ تقتضي الدوام على الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و‏{‏الصلاة‏}‏ الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة‏.‏

ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنياً على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهداً للإيمان وتكراراً، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله ‏{‏وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 7‏]‏ وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما‏.‏ ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفاً غير متمسك بأمر كان إذا أرشد إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيباً، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول‏.‏

فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضاً انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس‏.‏ انتهى‏.‏

ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولاً أولياً فقال ‏{‏والذين يؤمنون‏}‏ أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجاداً مستمراً ‏{‏بما أنزل اليك‏}‏ أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛ ‏{‏وما أنزل من قبلك‏}‏ أي على الأنبياء الماضين، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جداً بينه بالتقديم إظهاراً لمزيد الاهتمام فقال‏:‏ ‏{‏وبالآخرة‏}‏ أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ الآخرة معاد تمامه على أوليته‏.‏ انتهى‏.‏ ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال‏:‏ ‏{‏هم يوقنون‏}‏ لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد‏.‏ انتهى‏.‏ فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله‏.‏ والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية والماليه من الأفعال والتروك، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ وكلاهما من أعمال البدن، والنفقه عمل مالي، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلاً على السالكين، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعباً أيسر على النفس من الكف عما تشتهي‏.‏ وفي وصفهم أيضاً بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه‏.‏

ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال‏:‏ ‏{‏على هدى‏}‏ أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله‏:‏ ‏{‏من ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين ‏{‏وأولئك‏}‏ أي العالو الرتبه ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المفلحون‏}‏ أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب‏.‏ انتهى‏.‏ وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم‏.‏ والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير‏.‏

ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالاً من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال‏:‏ هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين‏؟‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم‏.‏

ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب ‏{‏أم لم تنذرهم‏}‏ أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام، قال سيبوية‏:‏ جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك‏:‏ اللهم اغفر لنا أيتها العصابة‏.‏ انتهى‏.‏ ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن‏.‏

ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران، فصار ممتنعاً لإرادته عدم وقوعه، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصّافّات عند ‏{‏افعل ما تؤمر‏}‏

‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ تتمة لهذا‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فحصل بمجموع قوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم‏}‏ إلى آخره وبقوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحداً ملتئماً كتباً سابقاً وكوناً لاحقاً‏.‏ انتهى‏.‏ وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عناداً وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد‏.‏

ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ختم الله‏}‏ أي بجلاله ‏{‏على قلوبهم‏}‏ أي ختماً مستعلياً عليها فهي لا تعي حق الوعي، لأن الختم على الشيء يمنع الدخول إليه والخروج منه، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال‏:‏ ‏{‏وعلى سمعهم‏}‏ فهم لا يسمعون حق السمع، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر، قال الحرالي‏:‏ وشرّكه في الختم مع القلب لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ فهم لا ينظرون بالتأمل‏.‏

ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه، ولما كان الأصم، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب‏.‏

ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم فقال‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولهم‏}‏ إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد عيان المعرفة به- أي العذاب- وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيماً آخذاً في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئاً من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك‏.‏ انتهى‏.‏ وسيأتى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ ما يلتفت إلى هنا‏.‏

قال الحرالي‏:‏ «الكفر» تغطية ما حقه الإظهار، و«الإنذار» الإعلام بما يحذر، و«الختم» إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و«القلب» مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلباً، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب، «والغشاوة» غطاء مجلل لا يبدو معه من المغطى شيء و«العذاب» إيلام لا إجهاز فيه، و«العظيم» الآخذ في الجهات كلها‏.‏

انتهى‏.‏ وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له‏.‏ إذ قال «اهدنا» فهداه، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحّلوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة‏.‏

ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى‏:‏

تحرّز من الجهال جهدك أنهم *** وإن أظهروا فيك المودة أعداء

وإن كان فيهم من يسرك فعله *** فكل لذيذ الطعم أوجله داء

لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم، فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول‏}‏ أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين‏:‏ مؤمن وكافر، وانقسم الكافر قسمين‏:‏ فمنهم من جاهر وقال‏:‏ لا نؤمن أبداً، ومنهم من يقول، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال مضطرباً بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحده‏.‏ قال الحرالي، وعرف للجنس أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم، ‏{‏آمنا بالله‏}‏ أي وحده بما له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا‏:‏ ‏{‏وباليوم الآخر‏}‏ الذي جحده المجاهرون، ‏{‏وما هم بمؤمنين‏}‏ أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره، وجمع هنا وأفرد في ‏[‏يقول‏]‏ تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة من يسمح منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم في الكفر وقوتهم‏.‏

وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم‏.‏

وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف‏:‏ مهتدين ومعاندين وضالين، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة‏:‏ متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل‏.‏

وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة، قال ابن هشام في تلخيص ذلك‏:‏ وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل‏!‏ وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال‏:‏ إنما محمد أذن» وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد‏:‏ لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي‏!‏ فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال «هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر»، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق «إن بيوتنا عورة» وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد من خيار المسلمين، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة‏:‏ غررتم والله هذا المسكين من نفسه‏!‏ وبشير بن أبيرق أبو طعيمة‏.‏ وفي نسخة‏:‏ طعمة، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 107‏]‏ وقزمان حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنه من أهل النار، فجرح فبشر بالجنة فقال‏:‏ والله ما قاتلت إلا حمية لقومي‏!‏ فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش يده فمات»‏.‏

ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل والجد بن قيس وهو الذي قال‏:‏ «ائذن لي ولا تفتني» وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون وهو القائل ‏{‏ليخرجن الأعز منها الأذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ وفيه وفي وديعة العوفي ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل ‏{‏ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 11‏]‏ الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا‏.‏

وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك‏:‏ يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته‏!‏ فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات‏:‏ «قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين»، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق‏:‏ «لا تخافوا، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين»، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا‏.‏ فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات‏.‏

وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى- جواباً لسؤال من كأنه قال‏:‏ فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته‏؟‏ ‏{‏يُخادعون الله‏}‏ أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي يعاملونهم تلك المعاملة، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وما يخدعون‏}‏ أي بما يغرون به المؤمنين ‏{‏إلا أنفسهم‏}‏ يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوساً، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبداداً منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه‏.‏ انتهى‏.‏ وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء

‏{‏يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وما يشعرون‏}‏ أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم‏.‏ وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز‏.‏ وانتهى‏.‏

ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور‏؟‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي‏:‏ ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال ‏{‏فزادهم الله‏}‏ أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها ‏{‏مرضاً‏}‏ أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألماً في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة، والزيادة قال الحرالي‏:‏ استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏ولهم‏}‏ أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم ‏{‏عذاب أليم‏}‏ في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم‏.‏ قاله الحرالي ‏{‏وبما كانوا‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏يكذبون‏}‏ أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون في الكذب، أو ينسبون الصادق إلى الكذب، وذلك أشنع الكذب‏.‏

ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان ‏{‏لا تفسدوا في الأرض‏}‏ أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة، والفساد انتقاض صورة الشيء‏.‏ قاله الحرالي، ‏{‏قالوا‏}‏ قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ والإصلاح تلافي خلل الشيء‏.‏ قاله الحرالي‏.‏

ولما كان حالهم مبيناً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً فكانوا يناظرون عليه بأنواع الشبه كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم ‏{‏ألا إنهم هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المفسدون‏}‏ أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، ولذلك قيل‏:‏ ما يصلح المنافق، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء- انتهى‏.‏

ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن لا يشعرون‏}‏ أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم‏.‏

ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهاً فقال‏:‏ ‏{‏وإذا قيل‏}‏ أي من أي قائل كان ‏{‏لهم آمنوا‏}‏ أي ظاهراً وباطناً ‏{‏كما آمن الناس‏}‏ أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي، وهو مفهم لما صرح به قوله‏:‏ وما هم بمؤمنين ‏{‏قالوا أنؤمن‏}‏ أي ذلك الإيمان ‏{‏كما آمن السفهاء‏}‏ أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم السفهاء‏}‏ لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس ‏{‏ولكن لا يعلمون‏}‏ أي ليس لهم علم أصلاً لا بذلك ولا بغيره، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم، قال الحرالي‏:‏ ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه- انتهى‏.‏ ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه‏.‏

ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلاً على إفسادهم بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا‏}‏ واللقاء اجتماع بإقبال ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي حقاً ظاهراً وباطناً، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلاً في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من الملتقيين‏.‏

انتهى ‏{‏قالوا‏}‏ خداعاً ‏{‏آمنا‏}‏ معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث‏.‏

‏{‏وإذا خلوا‏}‏ منتهين ‏{‏إلى شياطينهم‏}‏ أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير- قاله الحرالي، ‏{‏قالوا إنا معكم‏}‏ معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعاً لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال‏:‏ ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم‏؟‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ أي طالبون للهُزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي‏.‏

فأجيب من كأنه قال‏:‏ بماذا جوزوا‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏اللهُ يستهزئ بهم‏}‏ أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره المرذي لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان مجدداً لهم ذلك بحسب استهزائهم، وذلك أنكأ من شيء دائم توطّن النفس عليه، فلذلك عبر بالفعليه دون الاسمية‏.‏ مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية‏.‏

‏{‏ويمدهم‏}‏ من المد بما يلبس عليهم‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه، ‏{‏في طغيانهم‏}‏ أي تجاوزهم الحد في الفساد‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها انتهى‏.‏ وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم ‏{‏يعمهون‏}‏ أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلاً‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من العمه وهو انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدون حداً إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبداً متزايدو الطغيان- انتهى‏.‏

فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف ‏{‏أولئك‏}‏ أي الشديدو البعد من الصواب ‏{‏الذين اشتروا‏}‏ أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا ‏{‏الضلالة‏}‏ أي التي هي أقبح الأشياء ‏{‏بالهدى‏}‏ الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما ‏{‏ربحت تجارتهم‏}‏ مع ادعائهم أنهم أبصر الناس بها ‏{‏وما كانوا‏}‏ في نفس جبلاتهم ‏{‏مهتدين‏}‏ لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال، لأنه لم يبق في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 22‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى ‏{‏مثلهم‏}‏ أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها ‏{‏كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها، فوقدت وأنارت‏.‏

‏{‏فلما أضاءت‏}‏ أي النار، وأفراد الضمير باعتبار لفظ «الذي» فقال‏:‏ ‏{‏ما حوله‏}‏ وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد ‏{‏ذهب الله‏}‏ الذي له كمال العلم والقدرة، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخر فقال‏:‏ ‏{‏بنورهم‏}‏ أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل‏:‏ بضوئهم، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط، لأن الضوء أعظم من مطلق النور ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور، وعبر بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صيّر بترك فقال‏:‏ ‏{‏وتركهم في ظلمات‏}‏ أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته ‏{‏لا يبصرون‏}‏ أي لا إبصار لهم أصلاً ببصر ولا بصيرة‏.‏

ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشئ عن عدم الإدراك الناشئ عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار فقال‏:‏ ‏{‏صم‏}‏ أي عن السماع النافع ‏{‏بكم‏}‏ عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة ‏{‏عمي‏}‏ في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء، ‏{‏فهم‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنهم ‏{‏لا‏}‏ ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال‏:‏ ‏{‏يرجعون‏}‏ أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون عن حالهم هذا أصلاً، لأنهم كمن هذا حاله، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر‏.‏

‏{‏أو‏}‏ مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد ‏{‏كصيب‏}‏ أي أصحاب صيب أي مطر عظيم، وقال الحرالي‏:‏ سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقاً لأن المراد الحقيقة قوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس، يعني هذا أصلة والمراد هنا معروف، ومثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله‏:‏ ‏{‏فيه ظلمات‏}‏ أي لكثافة السحاب واسوداده ‏{‏ورعد‏}‏ أي صوت مرعب يرعد عند سماعه ‏{‏وبرق‏}‏ أي نور مبهت للمعانه وسرعته قاله الحرالي، والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما لم يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه‏.‏

ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازاً فقال‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم‏}‏ أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم ‏{‏في آذانهم من الصواعق‏}‏ أي من أجل قوتها، لأن هولها يكاد أن يصم، وقال الحرالي‏:‏ جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد، ثم علل هذا بقوله‏:‏ ‏{‏حذر الموت والله‏}‏ أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏محيط بالكافرين‏}‏ فلا يغنيهم من قدره حذر، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره‏.‏

ثم استأنف الحديث عن بقية حالهم فقال‏:‏ ‏{‏يكاد البرق‏}‏ أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه ‏{‏يخطف أبصارهم‏}‏ فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل‏:‏ ماذا يصنعون عند ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏كلما‏}‏ وعبر بها دون إذا دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي عند الإضاءة ‏{‏أضاء لهم مشوا فيه‏}‏ مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوته قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم بصائر بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه‏.‏

‏{‏ولو شاء الله‏}‏ الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم، ودل على مفعول شاء بقوله‏:‏ ‏{‏لذهب بسمعهم‏}‏ أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم ‏{‏وأبصارهم‏}‏ بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏على كل شيء‏}‏ أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبوية يقع على كل ما أخبر عنه، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال، وقول الأشاعرة‏:‏ إن المعدوم ليس بشيء، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان متميز فيها ‏{‏قدير‏}‏ إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب، قال الحرالي‏:‏ القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى‏.‏

ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني، أو لأنه مثل المنافقين، جعلت مدة صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ‏.‏ لأن الضلال فيه أشنع وأفظع‏.‏ فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً، والظلمات متشابهه، والصواعق وعيده، والبرق وعده، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ وكلما بشروا انقادوا رجاء، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها، لا نفوذ لهم إلى ما وراءها أصلاً، بل هم كالأنعام، لا نظر لهم ألى ما سوى الجزيئات والأمور المشاهدات، ‏{‏فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 141‏]‏ ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاًعظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 73‏]‏ والكلام الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد، وفي الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع بأصحاب الصيب لا بمثلهم؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن استوى وجودهما وعدمهما، فصار عادماً للثلاثة، فكان من هذه الجهة مساوياً للأصم الأبكم الأعمى، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي، فهو حينئذ مثل البهائم التي لا تقاد للمراد إلا بقائد، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏كمثل الذي ينعق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏ ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم إلى آخره و«او» بمعنى الواو، ولعله عبر بها دونها لأنه وإن كان كل من المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد، لأن الأول أظهر في الأول والثاني في الثاني‏.‏

وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال‏:‏ ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم، فضرب لهم المثل الأول، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا لما رأوا من معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين اتهى‏.‏ وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً به فكان حرف الحمد، وذلك أنه حرف عام محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه «عروة المفتاح»‏:‏ هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات بضرب مثل من المشهودات، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً لما هو أخفى منه، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي فيما يعلم ‏{‏وله المثل الأعلى في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد ‏{‏وله الحمد في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 18‏]‏ وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم، كان خُلقه القرآن ‏{‏لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم‏}‏

‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً ‏{‏إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏ وللمثل حكم من ممثوله، إن كان حسناً حسنَ مثله، وإن كان سيئاً ساء مثله؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق، وهو أدنى مثل أمثال حسنة وسيئة ‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ الآيتين، ‏{‏مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏فمثله كمثل الكلب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ الآيتين‏.‏ وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف، ‏{‏فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً‏}‏ ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى، وبذلك يكون القارئ من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنهم أعز من الكبريت الأحمر» ‏{‏يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 74‏]‏‏.‏

ثم قال فيما به يحصل قراءة هذا الحرف‏:‏ اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً ‏{‏وله الدين واصباً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 52‏]‏ و‏{‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 23‏]‏ فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف السته التفصيلية، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامه المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى‏:‏ ‏{‏وله المثل الأعلى‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة؛ ولجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله، وعنه كمل الدين بالإحسان، وصفا العلم بالإيقان، وشوهد في الوقت الحاضر، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو لكل شيء بداء وختام انتهى‏.‏

ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول العلم المستلزمان للواحدانية أنتج قطعاً إفراده بالعباده الموجبه للسعاده المضمنة لإياك نعبد، فوصل بذلك قوله مقبلاً عليهم بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذاناً بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطاً لهم في عبادته وترغيباً وتحريكاً إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضاً عنه بدوام الترقيه، فيزال ما أشار إليه حرف النداء والتعبير عن المنادى من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة ‏{‏ياأيها الناس‏}‏‏.‏

قال الحرالي في تفسيره ‏{‏يا‏}‏ تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي المقصورة «أيّ» اسم مبهم، مدلوله اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل، «ها» كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه- انتهى‏.‏ وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين المقصود بالنداء تنبيهاً على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب فكذلك أيضاً جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها، ولذلك تترجم السورة عدة سور، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏ واعلم مع ذلك أن كل نبئ منبأ- يقرأ بالهمز- من النبأ وهو الخبر، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً منبياً من النبوة- يقرأ بغير همز‏.‏ ومعناه رفعة القدر والعلو، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طيّة أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبأ في كل كتاب، فأعلمه بأنه تعالى جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب‏:‏ منهم من فُطِر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهراً والكفر باطناً، وإن كلاًّ ميسر لما خلق له؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء- بالهمز، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته ‏{‏الم‏}‏ ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة إلى العبادة يعني بهذه الآية، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن‏.‏

ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله فلم يجر خطاب ذلك على لسانه، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم، ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار دينه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاويه خلقه، ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏وبشر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ ‏{‏أن اعبدوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏ ونحو فعزّ على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك العقول، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالاً على النفوس، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي كالشمس والقمر ونحو ذلك، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء، واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها- انتهى‏.‏

ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني‏.‏ ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏، قال الحرالي‏:‏ ‏{‏الذي‏}‏ اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف يعقب به وهي الصلة اللازمة له، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏ القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه- انتهى‏.‏

ثم بين نتيجتها بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى، وهي اجتناب القبيح من خوف الله، وسيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ ما ينفع هنا‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ لعل كلمة ترج لما تقدم سببه، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وأفعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم‏.‏ بذلك تقوى- انتهى‏.‏

وما أحسن الأمر بالعبادة حال الاستدلال على استحقاقها بخلق الأولين والآخرين وما بعده عقب إثبات قدرة الداعي المشيرة إلى الترهيب من سطواته‏!‏ ولقد بدع هذا الاستدلال على التفرد بالاستحقاق عقب أحوال من قرب أنهم في غاية الجمود بأمور مشاهدة يصل إليها كل عاقل بأول وهلة من دحو الأرض وما بعده مما به قوام بقائهم من السكن والرزق في سياق منبّه على النعمة محذر من سلبها دال على الإله بعد الدلالة بالأنفس من حيث إن كل أحد يعرف ضرورة أنه وُجد بعد أن لم يكن، فلا بد له من موجد غير الناس، لما يشاهد من أن حال الكل كحاله بالدلالة بالآفاق من حيث إنها متغيرة، فهي مفتقرة إلى مغير هو الذي أحدثها ليس بمتغير، لأنه ليس بجسم ولا جسماني في سياق مذكر بالنعم الجسام الموجبة لمحبة المنعم وترك المنازعة وحصول الانقياد فقال‏:‏ ‏{‏الذي جعل‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من الجعل وهو إظهار أمر عن سبب وتصيير ‏{‏لكم الأرض‏}‏ أي المحل الجامع لنبات كل نابت ظاهر أو باطن، فالظاهر كالموالد وكل ما الماء أصله، والباطن كالأعمال والأخلاق وكل ما أصله ما الماء آيته كالهدى والعلم ونحو ذلك؛ ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها فقيل‏:‏ أرض أريضة، للكريمة المنبتة، وأصل معناها ما سفل في مقابلة معنى السماء الذي هو ما علا على سفل الأرض كأنها لوح قلمه الذي يظهر فيها كتابه- انتهى‏.‏

‏{‏فراشاً‏}‏ وهي بساط سقفه السماء وهي مستقر الحيوان من الأحياء والأموات، وأصله كما قال الحرالي‏:‏ بساط يضطجع عليه للراحة ونحو ذلك، ‏{‏والسماء بناء‏}‏ أي خيمة تحيط بصلاح موضع السكن وهو لعمري بناء جليل القدر، محكم الأمر، بهي المنظر، عظيم المَخْبَر‏.‏

ورتبت هذه النعم الدالة على الخالق الداعية إلى شكره أحكم ترتيب، قدم الإنسان لأنه أعرف بنفسه والنعمة عليه أدعى إلى الشكر، وثنى بمن قبله لأنه أعرف بنوعه، وثلث بالأرض لأنها مسكنه الذي لا بد له منه، وربع بالسماء لأنها سقفه، وخمس بالماء لأنه كالأثر والمنفعة الخارجة منها وما يخرج بسببه من الرزق كالنسل المتولد بينهما فقال‏:‏ ‏{‏وأنزل‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من الإنزال وهو الإهواء بالأمر من علو إلى سفل- انتهى‏.‏ ‏{‏من السماء‏}‏ أي بإثارتها الرياح المثيرة للسحاب الحامل للماء ‏{‏ماء‏}‏ أي جسماً لطيفاً يبرد غلة العطش، به حياة كل نام‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق ‏{‏فأخرج‏}‏ من الإخراج وهو إظهار من حجاب، وفي سوقه بالفاء تحقيق للتسبيب في الماء- انتهى‏.‏

وأتي بجمع القلة في الثمر ونكر الرزق مع المشاهدة لأنهما بالغان في الكثرة إلى حد لا يحصى تحقيراً لهما في جنب قدرته إجلالاً له فقال‏:‏ ‏{‏به من الثمرات رزقاً‏}‏ وإخراج الأشياء في حجاب الأسباب أوفق بالتكليف بالإيمان بالغيب، لأنه كما قيل‏:‏ لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب، والثمر كما قال الحرالي‏:‏ مطعومات النجم والشجر وهي عليها، وعُبر بِمن لأن ليس كل الثمرات رزقاً لما يكون عليه وفيه من العصف والقشر والنوى، وليس أيضاً من كل الثمرات رزق فمنه ما هو للمداواة ومنه سموم وغير ذلك‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ إشعار بأن في الرزق تكملة لذواتهم ومصيراً إلى أن يعود بالجزاء منهم‏.‏

وقد وصف الرب في هذه الآية بموصولين ذكر صلة الثاني بلفظ الجعل، لأن حال القوام مرتب على حال الخلق ومصيّر منه، فلا يشك ذو عقل في استحقاق الانقياد لمن تولى خلقه وأقام تركيبه؛ ولا يشك ذو حس إذا تيقظ من نوم أو غفلة فوجد بساطاً قد فرش له وخيمة قد ضربت عليه وعولج له طعام وشراب قدم له أن نفسه تنبعث بذاتها لتعظيم من فعل ذلك بها ولتقلد نعمته وإكباره؛ فلتنزيل هذه الدعوة إلى هذا البيان الذي يضطر النفس إلى الإذعان ويدخل العلم بمقتضاها في رتبة الضرورة والوجدان كانت هذه الدعوة دعوة عربية جارية على مقتضى أحوال العرب، لأن العرب لا تعدو بأنفسها العلم الضروري وليس من شأنها تكلف الأفكار والتسبب إلى تواني العلوم النظرية المأخوذة من مقتضى الإمارات والأدلة، فعوملت بما جبلت عليه فتنزل لها لتكون نقلتها من فطرة إلى فطرة ومن علم وجداني إلى علم وجداني عليّ لتحفظ عليها رتبة الإعراب والبيان بأن لا يتسبب لها إلى دخول ريب في علومها، لأن كل علم مكتسب يتكلف التسبب له بآيات وعلامات ودلائل تبعد من الحس وأوائل هجوم العقل تتعارض عليه الأدلة ويعتاده الريب، فحفظت هذه الدعوة العربية عن التكلف وأجريت على ما أحكمه صدر السورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏‏.‏

واعلم أن حال المخلوق في رزقه محاذي به حاله في كونه، فيعلم بالاعتبار والتناسب الذي شأنه أن تتعلم من جهته المجهولات أن الماء بزر كون الإنسان كما أن الماء أصل رزقه، ولذلك قال عليه السلام لمن سأله ممن هو فلم يرد أن يعين له نفسه‏:‏ «نحن من ماء» ويعلم كذلك أيضاً أن للأرض والسماء مدخلاً في أمشاج الإنسان رتب عليه مدخلها في كون رزقه، وفي ذكر الأرض معرفة أخذ للأرض إلى نهايتها وكمالها، ولذلك قال عليه السلام‏:‏ «من اغتصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين» وكذلك ذكر السماء أخذ لها إلى نهايتها وكمالها؛ وقدم الأرض لأن نظر النفوس إلى ما تحتها أسبق لها من نظرها إلى ما علا عليها‏.‏ ثم قال‏:‏ ولوضوح آية الربوبية تقلدها الأكثر وإنما توقفوا في الرسالة ولذلك وصل ذكر الرسالة بالتهديد- انتهى‏.‏

ولما أمر بعبادته وذكرهم سبحانه بما يعلمون أنه فاعله وحده حسن النهي عن أن يشرك به ما لا أثر له في شيء من ذلك بفاء التسبب عن الأمرين كليهما قال معبراً بالجلالة على ما هو الأليق بالتوبيخ على تألّه الغير ‏{‏فلا تجعلوا لله‏}‏ أي ما إحاطته بصفات الكمال‏.‏ ويجوز أن يكون مسبباً عن التقوى المرتجاة فتكون لا نافية والفعل منصوب ‏{‏أنداداً‏}‏ أي على حسب زعمكم أنها تفعل ما تريدون‏.‏ قال الحرالي‏:‏ جمع ند وهو المقاوم في صفة القيام والدوام، وعبر بالجعل لأن بالجعل والمصير من حال إلى حال أدنى منها ترين الغفلة على القلوب، حتى لا تشهد في النعم والنقم إلا الخلق من ملك أو ذي إمرة أو من أي ذي يد عليا كان، ولما شهدوا ذلك منهم تعلق بهم رجاؤهم وخوفهم وعاقبهم ربهم على ذلك بأيديهم فاشتد داعي رجائهم لهم وسائق خوفهم منهم فتذللوا لهم وخضعوا، فصاروا بذلك عبدة الطاغوت وجعلوهم لله أنداداً- انتهى‏.‏ وما أحسن قوله في تأنيبهم وتنبيههم على ما أزروا بأنفسهم ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أي والحال أنكم ذوو علم على ما تزعمون فإنه يلوّح إلى أن من أشرك به مع قيام هذه الأدلة لم يكن ممن يصح منه العلم فكان في عداد البهائم‏.‏ وفيه كما قال الحرالي‏:‏ إعلام بظهور آيات ما يمنع جعل الند لما يشاهد أن جميع الخلق أدناهم وأعلاهم مقامون من السماء وفي الأرض ومن الماء، فمن جعل لله نداً مما حوته السماء والأرض واستمد من الماء فقد خالف العلم الضروري الذي به تقلد التذلل للربوبية في نفسه فإن يحكم بذلك على غيره مما حاله كحاله أحق في العلم- انتهى‏.‏

وفي تعقيبها لما قبلها غاية التبكيت على من ترك هذا القادر على كل شيء وعبد ما لا يقدر على شيء‏.‏

وهذه الآية من المحكم الذي اتفقت عليه الشرائع واجتمعت عليه الكتب، وهو عمود الخشوع، وعليه مدار الذل والخضوع‏.‏ قال الإمام أبو الحسن الحرالي في العروة‏:‏ وجه إنزال هذا الحرف تحقيق اتصاف العبد بما هو اللائق به في صدق وجهته إلى الحق بانقطاعه عن نفسه وبراءته منها والتجائه إلى ربه استسلاماً، وجهده في خدمته إكباراً واستناده إليه اتكالاً، وسكونه له طمأنينة ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏، ويتأكد تحلي العبد بمستحق أوصافه لقراءة هذا الحرف والعمل به بحسب براءته من التعرض لنظيره المتشابه، لأن اتباع المتشابه زيغ لقصور العقل والفهم عن نيله، ووجوب الاقتصار على الإيمان به من غير موازنة بين ما خاطب الله به عباده للتعرف وبين ما جعله للعبد للاعتبار، سبحانه من لم يجعل سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته‏.‏

وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ الآيات، وما قدم في الترتيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ إلى ما ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب التي هي المعرفة ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ فليكن أول ما تدعوهم إليهم عبادة الله فإذا عرفوا الله، ومن ذكر عبادة النفس التي هي الإجمال في الصبر وحسن الجزاء ‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ ‏{‏ويدرؤون بالحسنة السيئة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏الذين هم في صلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه إلى سائر أحوال العبد التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب، وما تقدم من حرفي الحلال والحرام لإصلاح الدنيا، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابه، والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق وعياذ من العتق، فلذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك في نفس ولا غير، ولذلك بدئ بتنزيله النبي العبد، وهو ثمرة ما قبله وأساس ما بعده، وهو للعبد أحوال محققة لا يشركه فيها ذو رثاء ولا نفاق، ويشركه في الأربعة المتقدمة- يعني النهي والأمر والحلال والحرام، لأنها أعمال ظاهرة فيتحلى بها المنافق، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة، ولا بالخشوع ولا بالخضوع، ولا بالشوق للقاء ولا بالحزن في الإبطاء، ولا بالرضا بالقضاء، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن وأحاديثه الواردة للبيان، وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمن

‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42، والإسراء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

ولما كان حرف المحكم مستحق العبد في حق الرب في فطرته التي فطر عليها كان ثابتاً في كل ملة وفي كل شرعة فكانت آياته لذلك هن أم الكتاب المشتمل على الأحرف الأربعة، لتبدلها وتناسخها وتناسبها في الشرع والملل واختلافها على مذاهب الأئمة في الملة الجامعة، مع اتفاق الملل في الحرف المحكم فهو أمها وقيامها الثابت حال تبدلها وهو حرف الهدى الذي يهدي به الله من يشاء، وقرأته العملة به هم المهتدون أهل السنة والجماعة، كما أن المتبعين لحرف المتشابه هم المتفرقون في الملل وهم أهل البدع والأهواء المشتغلون بما لا يعنيهم، وبهذا الحرف المتشابه يضل الله من يشاء؛ فحرف المحكم للاجتماع والهدى، وحرف المتشابه للافتراق والضلال ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ اعلم أن قراءة الأحرف الماضية الأربعة هو حظ العامة من الأمة العاملين لربهم على الجزاء المقارضين له على المضاعفة، وقراءة هذا الحرف تماماً هو حظ المتحققين بالعبودية المتعبدين بالأحوال الصادقة المشفقين من وهم المعاملة، لشعورهم أن العبد لسيده مصرّف فيما شاء وكيف شاء، ليس له في نفسه حق ولا حكم، ولا حجة له على سيده فيما أقامه فيه من صورة سعادة أو شقاوة ‏{‏في أيّ صورة ما شاء ركبك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 63‏]‏‏.‏

والذي تحصل به قراءة هذا الحرف إما من جهة القلب فالمعرفة بعبودية الخلق للحق رقّ خلق ورزق وتصريف فيما شاء مما بينه وبين ربه ومما بينه وبين نفسه ومما بينه وبين أمثاله من سائر العباد، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يأخذ إلا ما أعطاه سيده، ولا يتقي إلا ما وقاه سيده، ولا يكشف السوء عنه إلا هو، فيسلم له مقاليد أمره في ظاهره وباطنه، وذلك هو الدين عند الله الذي لا يقبل سواه ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ و‏{‏من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ وهو دين النبي العبد، وما يتحقق للعبد من ذلك عن اعتبار العقل وخلوص اللب هي الملة الحنيفية ملة النبي الخليل- هذا من جهة القلب؛ وإما من جهة حال النفس فجميع أحوال العبد القن المعرق في الملك‏:‏ إنما أنا عبد آكل مثل ما يأكل العبد؛ وجماع ذلك وأصله الذل انكساراً والذل عطفاً والبراءة من الترفع والفخر على سائر الخلق والتحقق بالضعة دونهم على وصف النفس، بذلك ينتهي حسن التخلق مع الخلق وصدق التعبد للحق؛ وإما من جهة العمل فتصرف الجوارح وإسلامها لله قولاً وفعلاً وبذلاً، ومسالمة الخلق لساناً ويداً، وهو تمام الإسلام وثبته، لا يكتب أحدكم في المسلمين حتى يسلم الناس من لسانه ويده، ويخص الهيئة من ذلك ما هو أولى بهيئات العبيد كالذي بنيت عليه هيئة الصلاة من الإطراق في القيام ووضع اليمنى على اليسرى بحذاء الصدر هيئة العبد المتأدب المنتظر لما لا يدري خبره من أمر سيده وكهيئة الجلوس فيها الذي هو جلوس العبيد، كذلك كان صلى الله عليه وسلم يجلس لطعامه ليستوي حال تعبده في أمر دنياه وأخراه ويقول‏:‏ «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد» ويؤثر جميع ما هو هيئة العبيد في تعبده ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه وظعنه وإقامته

‏{‏قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ فبهذه الأمور من تحقق العبودية للقلب وذل النفس وانكسار الجوارح تحصل قراءة حرف المحكم والله الولي الحميد- انتهى‏.‏